Press
March 3, 2014
“Douaihy gives life to past memories” – Al Safir, on American Neighborhood

“Douaihy gives life to past memories” – Al Safir, on American Neighborhood

by Al Safir, January 2014

“American neighborhood” is not the story of a particular district of Tripoli, as much as it is the story of the whole city. The novel depicts the city in time and space, and taints it in multiple colors, as the author seems to have dipped his brush in its past and present, creating for us a heart warming portrait. The reader recognises all that he has known of Tripoli, or all the events and images his memory had safely kept, and to which Douaihy gives life. Perhaps the graceful wording, which increases the vitality of the text, is an indication of the intensity of the affection simmering inside the author towards a city the fantasy of which inhabited him.

:: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: :: ::

« يطل ّ الحي على نهر المدينة حيث لا حيلة للساكنين للوصول الى بيوتهم سوى صعود الأدراج العديدة التي ترسم في الحارة اخاديد تشبه سواقي الماء التي يحفرها ذوبان الثلج على سفوح الجبال، فيتعاونون على نقل الاثاث والمرضى أو يلجأ من تسمح له حاله الى خدمات عتاّل من سوق الخضر القريب». (ص: 5-6)
هكذا، يبدأ المؤلف بتصوير حي الأميركان على غرار الأحياء الاخرى التي تجثو على تلال المدينة بدعة وهدوء. بيد ان ذلك لا يعني ان هذا الحي المرتفع مكانيا يختلف عن بقية الأحياء الشعبية التي تقبع في قلب المدينة الداخلية او العتيقة او المملوكية كما يحب ان يسميها بعض من الذين كتبوا تاريخها. فهذه الاخيرة تضم في أحشائها مراحل مختلفة من التاريخ، بدءاً من العصور اليونانية والرومانية مروراً بالعربية والصليبية والمملوكية وصولاً الى العثمانية والحالية التي تركت بصماتها في مناح مختلفة من اسواقها القديمة او روابيها البسيطة.
والحي عادي في حياته اليومية، وفي تعاطيه مع الامور الواقعية. «فعبد الرحمن بكري الملقب بالمشنوق واولاده الخمسة وزوجته التي تكبره سناً» هو صورة نموذجية عن المواطن العادي الذي يقتل الملل واوقات الفراغ بمشاهدة التلفزيون الذي يعتز بحيازته لدرجة الاحتفاظ في جيبه بآلة التحكم الخاصة بالجهاز، حيث يتمتع بالنظر ليس فقط الى عارضات الازياء اللواتي يرفلن بأثوابهن الشفافة على الشاشة الصغيرة وإنما ايضا بالتلصص على منحنيات ونتوءات جسد جارته في السكن، انتصار زوجة بلال محسن، وهي تهبط الدرج أمامه في بنطلون الجينز الضيّق.
بلال محسن هذا وزوجته واولاده ومعهما عبد الكريم العزام، سليل احدى العائلات السياسية العريقة في المدينة، هم أبطال الرواية المحوريين وأحداثها الرئيسة.
وعلى غرار العديد من العائلات الشعبية البسيطة التي ربطت مصيرها بمصير الزعامات السياسية النافذة، كإحدى وسائل تأمين لقمة العيش والتمتع بشيء من المباهاة على مستوى الحارة وإلافلات من العقوبة في حال ارتكاب بعض المخالفات الصغيرة او الجنح البسيطة كما يسميها «قبضايات الحي استخفافاً»، ارتبطت انتصار من خلال والدتها ام محمود زوجة حسين العمر، مرافق مصطفى العزام أحد زعماء المدينة وأحد صانعي الاستقلال الذي كان تمثاله يزين مدخل المدينة وهو يحمل بيده اليمنى وثيقة الاستقلال، بهذه العائلة العريقة لتأمين معيشة أطفالها. فالزوج بلال، غالباً ما يهجر البيت العائلي ليتوه في اللامكان بحثاً عن مأوى وعن عمل لا يحالفه الحظ بالحصول عليه في معظم الاحيان، ليعود بعد عدة أيام وقد طغى عليه الشوق للتمتع بجسد زوجته والذي غالباً ما ينتهي بحملٍ جديد وبفم إضافي يجب إطعامه. وبلال هذا يعيش وضعاً صعباً على صعيد علاقاته مع أقرانه، فهو متهم من قبلهم بخيانة رفاقه اثناء خوضهم تلك المواجهة الكبرى مع العسكر التي انتهت بهزيمتهم. ومع انه اشترك في الهجوم على الجيش في محطة القطار للثأر من مقتل الشيخ عماد امير باب الحديد، إلا انه لم يستطع تبرير نجاته من المجزرة التي ارتكبها الجنود في مركز اللجان الشعبية، ما رسم حوله علامة استفهام كبيرة، او بالاحرى دائرة من الشك والعار ستظل تلاحقه وتمنع الآخرين من الثقة به، وتزيد من حالة العزل الاجتماعي والبطالة التي يعيش فيها، ما انعكس ممارسة عنيفة في علاقاته مع عائلته.
ابنه اسماعيل الذي بلغ سن الشباب، بعدما أمضى قسماً من طفولته، بسبب ضيق منزل العائلة، في رعاية جدته ام محمود، وبرفقة خاله استاذ العلوم، هاوي السفر والتجوال في اصقاع الدنيا، والذي سيساعده في الحصول على الشهادة التكميلية، سيضطر للعودة الى منزل اهله بعد وفاة جدته ومرض خاله. وهنا سيشهد الولد على سوء تصرف والده مع اخوته وامه التي لم يكن يتورع عن ضربها لأي سبب، ما دفعه للتصدي لوالده ووضع حد لتصرفاته هذه.
الفتى اسماعيل الذي لم يتمكن من متابعة دراسته المهنية في قسم الميكانيك سوف يضطر لمساعدة امه في إعالة اخوته للعمل كيفما اتفق الى ان استقر في فرن ياسين الشامي الذي كان يتبع لأحد التنظيمات المتطرفة. وبعد عملية فاشلة ضد تجمع للعمال السريلنكيين اثناء وجودهم في المكان المخصص لصلاتهم في بيروت ستقوم المنظمة بإرسال الشاب اسماعيل الى العراق للقيام بعملية استشهادية هناك.
التحولات

هنا تأخذ الرواية بعدها الاساسي وهو التركيز على تلك التحولات التي أصابت الجيل الصاعد، الذي يعاني الفقر والإهمال والتهميش والخيبات من ممارسة النظام، والتي دفعته للقيام بأعمال مناقضة لقيم التسامح والمحبة والأخلاق طمعاً بحياة أفضل في العالم الآخر. فالتطرف والعنف والاعمال الانتحارية، التي يسميها البعض استشهادية، هي النقيض الكامل لعالم المدينة وموروثاتها الثقافية والدينية التي تؤكد التفاهم والتعاون والعيش المشترك ونبذ التطرف. وحي الاميركان هو واحد من تلك الأحياء التي كانت ترسل رجالها وشبابها الى قلب المدينة للتظاهر ضد الاستعمار، وتأييد نضال الشعوب الباحثة عن الحرية. ألم تكتسب عائلاتها السياسية المرموقة، وعلى رأسها آل العزام، شرعيتها في القيادة والزعامة من تلك المواجهات المعروفة مع المستعمر؟ ألم يشتهر مصطفى العزام، جد عبد الكريم بتلك المواجهة «يوم مزّق قميصه وفتح صدره أمام ضابط فرنسي كان شاهراً مسدسه ويحيط به جنود سنغاليون يضعون الحراب في فوهات بنادقهم وصرخ به بالفرنسية: أطلق النار» (ص:36).
إن إسقاط الماضي على الحاضر، في ضبابية الزمان والمكان، يعكس تماهي المدينة وأجيالها المختلفة مع الأحداث القائمة في مناطق اخرى من الدول العربية، ويجعل من هذه البقعة المنفتحة على البحر وآفاقه الرحبة مرتعاً للتنظيمات التي نصبت نفسها حارسة على إيمان الآخرين وسلوكياتهم. وهذا ما استطاع المؤلف تسليط الضوء عليه ببراعة فائقة جنّبته الوقوع في فخ إصدار الاحكام التي يفرضها التمسك بمسلّمات معينة قد تخرج أحياناً عن مفاهيم المنطق والموضوعية. فالمؤلف قام، بمهارة كبرى، بسرد الاحداث في إطارها التسجيلي انطلاقاً من حركية المكان البارزة (خدمات العتالين في سوق الخضر، جامع العطار، خان الصابون، خان الخياطين وصانع الطرابيش، السوق الذي يقوم فيه صانع اباريق القهوة بالضرب على النحاس الابيض منذ الصباح الباكر بمطرقة دقيقة الخ…)، ليضعها في إطار الزمان المحدد بتوالي الاجيال والمراحل التي عاشوها. ولعل هذا ما يجعل من هذه الرواية سجلا تاريخياً، وعاطفياً لهذه المدينة ومعالمها المعمارية والانسانية انطلاقا من قصة عائلة بلال محسن الشعبية وارتباطها بعائلة العزام السياسية.
إن شارع المصارف، والقلعة القديمة التي تعود لقرون غابرة، والمقبرة القديمة التي تظللها أشجار الكينا العالية، وكنيسة السيدة، ومدرسة الراهبات، وشارع صالات السينما، ومطعم الشاطئ الفضي، ورائحة الزهر المنبعثة من بساتين الليمون في فصل الربيع، ورائحة الزيتون التي تصل الى التكية المولوية في أعلى النهر، وغيرها من الأماكن هي المسرح الواسع الذي يتحرك فيه اشخاص الرواية بانسيابية وعفوية تعكس مدى تلمس الكاتب للتفاصيل الصغيرة التي تعطي المدينة طابعها الحضاري الخاص والمميز.
كذلك فإن عبد الكريم العزام وصدمته العاطفية مع راقصة الباليه التي ارتبط معها في علاقة قصيرة في باريس، وإسماعيل ابن بلال محسن، الشاب المتطرف الذي عدل عن القيام بعملية انتحارية في العراق لدى رؤيته ذلك الطفل في الباص وهو يتجول بين المقاعد ليلهو بعدّ الركاب بالرغم من مناداة أمه له، والذي ذكّره بأخيه الصغير، هما وجهان متناقضان لهذا الجيل الذي يتطلع بقسم منه الى الحداثة، فيما يعتبر القسم الآخر ان كل معاناته ومتاعبه تنجم بالذات عن هذا التطور المصطنع الذي يجب التخلي عنه والعودة الى الاصول. وفي كلا الامرين حد معين من الاستلاب الثقافي والتاريخي. وليست مسألة الاستماع لأم كلثوم من قبل عبدالله العزام، والد عبد الكريم، واستماع هذا الاخير للموسيقى الغربية الكلاسيكية، والاوبرا وغيرها إلا صورة عن بعض هذا الاستلاب. مثلما ان استبدال النضال القومي، والعروبي، بالجهاد الديني الذي يمثله يونس الالماني، وابو مصعب رئيس جمعية الهداية الاسلامية، هو جانب آخر من هذا الاستلاب الذي تبرز إشكاليته في غياب الرؤية الواضحة لآفاق المستقبل لدى الطرفين. فجيل الحداثة حوّل المدينة الى غابة من الباطون المسلّح وقضى على هويتها التراثية، بينما أوقعها الطرف الآخر في خضم البسطات الخشبية وعربات اليد، وراكبي الدراجات النارية الصغيرة الذين يقودون في جميع الاتجاهات، ومختلف أصناف الفوضى التي تعّبر عن حالة رفض وثورة ضد كل ما هو تقليدي ومتعارف عليه. وكما فقدت المدينة ذلك الشاعر الذي اعتلى المنبر ليلقي تلك الأبيات الحماسية في حفل تكريم الزعيم الكبير، وكما خسرت طبيب القلب المشهور الذي كان يفحص مرضاه بدون سماعة من خلال وضع أذنه على صدر المريض ليحدد علّته، كذلك اختفى من شوارعها ذلك العجوز الذي كان يزين ثوبه بأزهار المواسم.. وهؤلاء كانوا من سماتها الانسانية.
إن «حي الاميركان» ليس قصة حارة، أو منطقة محددة من طرابلس بمقدار ما هي رواية تحكي حال مدينة بأكملها، ترسمها في الزمان والمكان، وتلوّنها بشتى الالوان الزاهية التي غمس الكاتب ريشته في ماضيها وحاضرها ليجعل منها لوحة بهية يفرح المرء بالنظر اليها، إذ يجد فيها كل ما يعرفه عنها، أو بالاحرى كل ما اختزنته ذاكرته من صور وأحداث تحولها الى سجلٍ ناطق كان للمؤلف فضل بثّ الحياة فيه من جديد. ولعل التعبير الرشيق الذي زاد من حيوية النص لهو أبلغ دليل على ان الكاتب كان يحكي عما يجيش في داخله من عاطفة تجاه مدينة سكنته بهواها.